كانوا يجلسون كل في موقعه، يؤدي عمله من على طاولته. ومن وقت للآخر يقومون بزيارات خاطفة، يزورون فيها بعضهم كسراً لرتابة العمل. ليعودوا بعدها إلى أعمالهم بنشاط وهمة، بعد أن يكون قد تخلصوا من الملل والضجر. وكانت علاقتهم مضرب المثل، يتندر بها من يعرفهم ومن لا يعرفهم. حتى وصل الحال بمن حولهم إلى الحسد، إذ لم يكونوا يتصورون أن يأتي يوم فتنحل تلك الصداقة وتضمحل.
رغم ذلك لم تكن علاقتهم متينة قوية، بحيث تثبت أمام هزات الزمن وبراكينه. لان الأخ المعني بالقصة، له أهداف وغايات مخفية، لم تكن لتظهر على السطح بسهولة. كأنها كانت أشبه بنار خامدة تحت رماد، ما إن أزيل عنها رمادها حتى ظهرت حرارتها واشتد لهيبها. ورغم محاولاته قمعها وإسكاتها، فهي تخرج من فيه وعبر ممارساته، على شكل فلتات وحركات غير إرادية. كنوا يلحظوها ويحسوا بها، تخرج على شكل أوامر ونواهي.
وأحياناً تفجر فيهم مشاكل نفسية، محدثة زوابع مدمرة، تترجم لقسوتها على أنها تدخلاً سافراً في مالا يعنيه، وتطاولاً على صلاحيات ومواقع الغير. مع محاولته تغليفها بنبرات حميمة على إنها مساعدات أخوية، وتفاني وحب للعمل، وخوف من حساب رب العالمين. ولذا كانوا يتغاظون عنها على مضض، ويتفادون النظر إليها، خوفاً من المشاحنات والمشاجرات الشخصية.
وفي ذات يوم قررت الإدارة نقله إلى المكتب الرئيسي، للاستعانة به في أعمال أخرى. مع التشديد على كلمة نقله، لأنه لم يعطى ترقيه في منصبه، ولا زيادة في راتبه على أثرها! ورغم عدم وجود أي من الحوافز المذكورة، كشر عن أنيابه وبدا على حقيقته، تلك التي كان يحاول إخفائها في الماضي!
وسقط عند أول اختبار! عندما وضع رب العمل إعلان شخصي! فطلب منهم هو، رغم عدم كونه مسؤولاً عنهم، متابعة البحث عن ذلك الإعلان! مع إن هذه المهمة غير متعلقة بعملهم مباشرة، عملهم الذي على أساسه يعطون رواتبهم. ورغم كل شيء، أخذوا الأمر على محمل الاخوة - والصداقة - والمساعدة، وأخذوا يتابعون ويبحثون بشكل جدي ويومي. ولكن ذلك لم يكن ليعجبه أو ليقنعه، لأنهم لم ينجحون في العثور على ذلك الإعلان، الذي لم يكن قد وضع في مكانه المعتاد أساساً.
ومع علمه، أن الإعلان لم يوضع في القسم المخصص له، وإنها غلطة الجريدة. تابع إصدار أوامره إليهم، محاولا بذلك معاقبتهم! متقمصاً بذلك سترة الإداري الصلب المتشدد، الذي لا يتوانى ولا يغفر أي غلطة مهما كان حجمها. أصدر أمراً بإرسال الجريدة بعد قراءتها، للموقع الذي هو فيه، ليطلع عليها رب العمل. مع علمهم الأكيد، وخلال الفترة الطويلة التي عاشوها في العمل، أن رب العمل لم يكن ليسأل عنها، أو يطلع عليها بتاتاً. كما أصدر قراراً آخر بعدم إخراج الجريدة من موقع العمل.
وعندما لم يذعنوا لأوامره، ولم يستجيبوا لقراراته، طلب منهم مخاطبة رب العمل مباشرة! وذلك لأخذ القرارات الرادعة والقامعة مباشرة منه. لم يستطع رب العمل منازعتهم أو معارضتهم، لان حجتهم كانت أقوى! حيث قالوا له وبكل قوة عندما سألهم: لما تبقون الجريدة معكم وأنتم لا تقرءونها؟! بحسب عملنا يتوجب علينا متابعة الجريدة بشكل يومي، لذا نحن من اصدر طلب الاشتراك فيها؟! لم يستطع الرد عليهم، واقفل خط الهاتف مسرعاً.
ومنذ ذلك اليوم انقطعت علاقتهم به، ووجوده في الطرف الآخر من موقع العمل ساعد على تلك القطيعة. كأنما كان الوضع برمته، بركاناً خامداً لم يلبث أن نفث ما في قعره، عندما وجد ما يحركه ويثيره. وحتى وأن حصل وزار مكان عملهم، فلا تزال في النفس حرقة وألم، من جراء ما قام به. ومع عدم وجود علاقة عمل حقيقية تربط الطرفين، جعل مروره غير مرحب، ولا مستأنس. وأن حصل وألقى السلام، فلا يوجد من يجيبه، رغم علمهم أن السلام مستحب والرد واجب. فيحتاج الأمر إلى وقت ليس بالقليل، حتى تلتئم الجروح وتختفي، وينسى الألم ويعفي عليه الزمن.